سطور من حياة الراحل مظفّر النوّاب.. رحلات ومحطات ’زاخرة’ امتدت عقوداً
مظفر النوّاب شاعر يساري عراقي، اشتهر بشعره السياسي المنتقد بقوة للأنظمة العربية، وكذلك بكتابته الشعر العامي، عاش تجربة الاعتقال وقضى معظم عمره في المنافي، وذاع صيته من خلال الأمسيات الشعرية المسجلة.
توفي النوّاب اليوم، (20 ايار 2022)، في أحد مستشفيات الشارقة في دولة الإمارات بعد صراع مرير مع المرض.
المولد والنشأة
ولد مظفر بن عبد المجيد النواب عام 1934 في الكرخ بالعاصمة العراقية بغداد، لعائلة أدبية ثريةتنتمي إلى البيت الهاشمي، وكان جده لوالده ينظم الشعر بالعربية والفارسية.
وقد غلب على عائلته لقب “النواب” الذي قد يكون جاء من “النيابة” أي النائب عن الحاكم، إذ هاجرت عائلة جده إلى الهند أيام حكم العثمانيين للعراق، وهناك تولت الحكم في إحدى الولايات الهندية، ثم عادت منها إلى العراق (موطنها الأصلي) بضغط من سلطات الاحتلال الإنجليزي بالهند بسبب مقاومتها للاحتلال.
الدراسة والتكوين
واصل النواب تعليمه النظامي حتى أكمل دراسته في كلية الآداب بجامعة بغداد. وفي فترة لاحقة، انتسب إلى جامعة فانسان الفرنسية وسجل رسالة ماجستير كان موضوعها “باراسايكولوجي” أو القوى الخفية في الإنسان.
نمت موهبة النواب الشعرية بفضل ما كان ينشده إياه جده الشاعر في منزلهم من قصائد ومختارات أدبية، وفي الصف الثالث الابتدائي بدأ نظم الشعر حين كلفه أحد أساتذته بإكمال بيت أعطاه شطره الأول، وكان -وهو في المرحلة الإعدادية والثانوية- ينشر قصائده في المجلات الجدارية المدرسية.
التوجه الفكري
آمن النواب وهو في بواكير شبابه بمبادئ الشيوعية، فانتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي وناضل في صفوفه خاصة بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958، وظل كذلك حتى اضطر في 1963 إلى مغادرة البلاد باتجاه إيران إثر اشتداد الصراع بين الشيوعيين والقوميين العرب الذين وصلوا إلى الحكم بانقلاب نفذوه في نفس العام.
المسؤوليات والوظائف
عُين النواب أثناء حكم الشيوعيين للعراق (1958-1963) مفتشا فنيا في وزارة التربية، ثم فقد وظيفته بسبب خروجه من البلاد، وبعد تسليم الإيرانيين إياه لسلطات بلاده أواخر عام 1963 سُجن فترة تمكن خلالها من الهرب والاختفاء بجنوبي العراق حيث عمل في شركة هولندية، وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين فرجع إلى الوظيفة في مجال التعليم مرة ثانية.
التجربة الشعرية
لفت النواب الأنظار إليه منذ عام 1969 بقصيدته “قراءة في دفتر المطر”، وقد عرفه الجمهور العربي من خلال ملحمته الشعرية “وتريات ليلية” التي كتبها خلال 1972-1975، وظهر فيها ملتزما بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية وأصبح تغنيه بها سمة ظاهرة في شعره.
اشتهر منذ أوائل السبعينيات بشعره السياسي المعارض والموغل في نقد الأنظمة العربية الحاكمة نقدا لاذعا يصل أحيانا مستوى “الوقاحة”، حتى لقبه بعضهم بـ”الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي”.
فرضت على النوابقصائده السياسية الهجائية أن يكون “شاعر الغربة والضياع”، فعاش أربعة عقود طريدابين المنافي العربية والأجنبية، متوزعا في أسفاره بين دمشقوبيروتوالقاهرةوطرابلسوالجزائروالخرطوم، وظفار (سلطنة عُمان) أيام ثورتها، وإريتريا وإيران(بعد الثورة) وفيتناموتايلندواليونان،وفرنساوبريطانياوالولايات المتحدة،وفنزويلاوالبرازيلوتشيلي.
دأب النواب على تنظيم أمسيات شعرية للجاليات العربية بالعواصم الغربية -ولا سيما لندن– ألقى فيها قصائده الكثيرة التي خصصها للقضية الفلسطينية وانتفاضتيْها (1987 و2000) والحث على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة قصيدته “القدس عروس عروبتكم”.
وفي قصيدته “الانتفاضة” (2001) يقول النواب: “قد أذن الدم الزكي أن محمد الدرة من يؤمكم.. يا رجال وحدوا الصفوف خلفه.. حي على السلاح.. لا تقهر انتفاضتي وموقعي.. أدوس أنف من يشك أن بندقيتي.. تلقح الزمان أشرف اللقاح”.
وحث النواب أطفالَ فلسطين على رمي الحجارة على الإسرائيليين في قصيدة حملت عنوان “رب الحجر” قائلا: “ارم رب الحجر.. شلت مدرعة تحت صليات عينيك تلتظ نابض نار.. ارم قبلت كفك وجها وظهرا.. زرائبنا لم تزل تتثاءب.. لا سيما انتشر الآن داء البقر.. ارم أنت يد الله.. ألق الحجارة الجحيم.. تآمرهم ضد وعي الحجارة لا يغتفر”.
باختياره دمشق مُقاما آخِر تسعينيات القرن العشرين بمعاش خصصه له النظام السوري بدأت عزلة النواب تتسع فاكتفى بداية بالجلوس في مقهى الهافانا بشارع 29 أيار مرتين أو ثلاثا أسبوعيا، ثم أصبحت مرة يتيمة قبل أن يعتزل نهائيا في بيته الذي لا يفارقه إلا ليلتقي القليل من الأصدقاء في أوقات متباعدة.
وظهر مرة على الفضائية السورية ليرثي الرئيس السوري حافظ الأسد بعد رحيله في يونيو/حزيران 2000.
ويرى البعض أنه تنبأ بـ”الربيع العربي” وما أعقبه من تداعيات دامية بقوله في مجموعته “وتريات ليلية”: “سيكون خراباً.. سيكون خراباً.. سيكون خراباً.. هذي الأمةُ لا بد لها أن تأخذ درساً في التخريب”.
أبدى تأييده لإسقاط نظام صدام حسين 2003، حيث أقام عدة أمسيات ابتهاجا بذلك كانت إحداها في مدينة أبو ظبي في عام 2005. كما ظهر على شاشات الفضائيات العراقية والعالمية وهو يدلي بصوته في الانتخابات العراقية أيام الاحتلال الأميركي 2010.
وفي مايو/أيار 2011، عاد النواب -المريض بمرض الشلل الرعاشي (باركنسون)- إلى بلده العراق بعد أربعين عاما من الغياب قضاها في المنافي، وقد استقبله الرئيس العراقي حينها جلال الطالباني في مكتبه بقصر السلام في العاصمة بغداد.
وقد أشاد الطالباني -وفق ما نقلته صحيفة “الصباح” العراقية- بالنواب، وخاطبه قائلا: “لنا أن نفخر بك. وللشعب أن يعتز بك رمزا في الإبداع وفي النضال..، إن شعرك مدرسة تربّى على قيمها الثورية الفلاحون والعمال والطلبة وسائر فئات الشعب”.
الأعمال الشعرية
اشتهر النواب بقصائده المسجلة بصوته على أشرطة (كاسيتات) خلال أمسياته الشعرية نظرا لطريقته الخاصة في أداء أشعاره، بحيث تتحول أبيات قصائده إلى ما يشبه المسرحية، لكنه رغم جماهيريته الواسعة لم يطبع شعره في ديوان يجمعه، ما عدا شعره الشعبي الذي جُمع في ديوان “الريل وحمد”، ويقال إنه طبِع دون علمه.
ويعزو النواب سبب ذلك إلى أسفاره الكثيرة وإحجام دور النشر عن التعامل معه لما يحمله شعره من نقد لاذع للحكام العرب. وهو يرى أن شعره أكثر بكثير مما ألقاه على المسارح وسُجل في الأشرطة، كما يتحدث عن ضياع عشرات القصائد الطويلة بسبب عدم تدوينها ولفقدها في حادثة غرق باخرة ليبية كانت تحمل مكتبته وأشعاره.
ومن قصائده الشهيرة: “قراءة في دفتر المطر”، و”وتريات ليلية”، و”وطني علمني كل الأشياء”، و”رحيل”، و”في الحانة القديمة” و”تل الزعتر”.
وفي عام 1996 طبعت “دار قنبر” بلندن كتاب “الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العربي المناضل مظفر النواب”. أما شعره فقد ألف عنه كتابان صدرا في دمشق، هما: “مظفر النواب حياته وشعره” لباقر ياسين (1988)، و”مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية” لعبد القادر الحسيني وهاني الخير (1996).
وقد رفض النواب على الدوام تخليد سيرة حياته في فيلم سينمائي، حيث لم يلبّ رغبة الشاعر والمخرج السوري علي سفر والكاتب السوري إبراهيم الجبين في إنتاج شريط وثائقي حول تجربته، كما رفض عرضا مماثلا من القناة الفرنسية الخامسة قدمته له بداية عقد التسعينيات.